منتديات ليب مون

الحريري وشلق في مناسبة تعود الى العام 1997


مين رفيق الحريري؟
شاب لبناني ناجح في السعودية، ويريد مهندسين في اختصاصات متعددة. هل تعمل معه؟
لم لا؟
الفضل شلق مهندس ميكانيكي في دار الهندسة. هو في بيروت يقضي إجازة قصيرة من عمله في لندن. الحوار القصير أعلاه يدور بين شلق وصديقه في العام .1978 لم يسمع من قبل بالحريري، وهو في مؤسسة مهمة جداً، تكاد تكون حلماً لأي مهندس. مع ذلك، لم يتردد في البحث بإمكانية الانتقال بحياته إلى مجرى آخر.
في اليوم الثاني، دخل صديقه عليه منفعلاً، بعدما حاول لساعة الاتصال به ولم يجده. قال له عن الرجل في المطــار ينتظر إصلاح عطل في طائرته الخاصة. ويمكن للفضل ان يلتقي به الآن. قاما إلى المطار. الانطباع الاول كان أن الحريري شاب مثلي بقميص مفتوح الصدر أيضاً. لا يبدو رب عمل. عشر دقائق من الحوار واتفق الرجلان على تفاصيل الوظيفة الجديدة للفضل شلق في فرنسا. لم ينس أن يقول المهندس لرجل الاعمال: أنا «يساري جداً»، وانت تعمل في السعودية. اجابه الحريري: ولا يهمك.
هكذا كان، اضافة الى تفصيل أخير بينما الحريري، ابن الرابعة والثلاثين يقوم إلى طائرته الخاصة. قال له شلق: باريس كبيرة. إلى أين اذهب؟ كتب له رقم هــاتف على ورقة محارم. حــين قرر شلق الموافقة على العرض الذي قدمه اليه الحريري قال له: «والله حبيناك ورح نشتغل معك».
[[[
اشتغل معه خمسة وعشرون عاماً، أي من العام 1978 وحتى العام .2002 الفضل شلق في حواره أمس مع «السفير»، يبدو مستمتعاً بسرد لقاء العمل الاول، ويتحفظ في سرد لقاء العمل الأخير. «لا اعرف لماذا تركت، وما زلت لا أعرف. لكنني كنت قد بدأت أشعر، منذ فترة، انني خارج المكان».
في كتابه الصادر في العام 2006، «تجربتي مع رفيق الحريري»، تفيض الذكريات عن اربعمئة صفحة. فيه يتحفظ شلق أيضاً عن إعلان سبب واضح لترك العمل مع ربّ عمل طلب منه أن يحدد تعويض نهاية الخدمة بنفسه، وكرّمه معنوياً أيضاً، وحافظ على عشرة العمر إلى اليوم الأخير من حياته.
يضع شلق ما يشبه الضباب بين كلامه وبين الذكرى غير الجيدة. ويختفي الضباب حين يحكي عما أنجزه مع الحريري. عن أحلام كان الحريري يجعله يحققها. المهندس الشمالي ابن كفريا في الكورة وعلمها الدكتور علي شلق ليس سهل المراس، والحريري نفسه كان قال له أنهما لا يجيدان تبادل الكلام، لكنهما اجادا العمل معاً. من الصعب على الحريري أن يمنح ثقته. لكنه حين يثق بأحد يعطيه منها كثيراً. لا يعود مهماً ان الفضل «مشاكس» و«مشكلجي» كما يصف هو نفسه. المهم أن الحريري حين يتصل به ويسأله: هل تستطيع تنظيف بيروت؟ يجيبه هذا: بالطبع استطيع. ثم يصل بيروت من صيدا بعد ساعة على الاتصال ليزور الرئيس صائب سلام، بناء على توصية الحريري، ويخبره بأنه سيبدأ بتنظيف المدينة بعد اربعة ايام. و«التنظيف» كلمة رقيقة لوصف ازالة الركام الذي خلفه الاجتياح الاسرائيلي للعاصمة. عملية بدأت قبل ايام من اغتيال بشير الجميل، لتستأنف لاحقاً وتصل إلى حدود رفع نفايات المدينة لأن البلدية كانت عاجزة في حينها عن القيام بمثل هذا العمل.
حلم ازالة الدمار عن وجه المدينة بدا خاصاً بالعروبي وقد جاء عروبي آخر ليطلب منه تنفيذه، أو بالأحرى تحقيقه. هنا يتحول العمل إلى متعة. نعمة لا ينالها إلا المحظوظ. لكن رجلاً بحجم الحريري لا يركن معه إلى الحظ وحده. ثمة كفاءة عليها ان تثبت نفسها. وشلق أثبت نفسه بما يكفي ليلتقط أول خيط أغلى أمنية على قلب الحريري: التعليم.
صرنا في العام .1984 وعدد الطلاب الذي حمله شلق الى الحريري كمقبولين لمنح جامعية في أميركا وفرنسا كان خمسمئة. الحريري قال له: أريد ألف منحة. ضاعف الرقم. والرقم سيتناسل ليصل الى أكثر من ثلاثة وثلاثين الفاً منها 950 شهادة دكتوراه. هذا بدوره لم يكن عملاً بل متعة خاصة يصفها شلق بالشعر الذي لا يشبع من قراءته تمثلاًَ بابيه الشاعر. الحريري كان قارئا نهماً لهذا العمل. يتصل بشلق نهاراً ليسأله: «شو الغلة؟» يقصد الرقم الذي وصل إليه عدد المنح. يجيبه شلق: عشرة آلاف. يعود الحريري ليتصل مساء: شو الغلة؟ يرد عليه: «اخبرتك نهاراً».
«اريد سماع الرقم مرة ثانية»، كان الحريري يجيبه.
شلق يقول إنه حين تكاثر المعترضون من محيط الحريري على طريقة عمل شلق في المؤسسة، دعا الحريري الجميع الى الرياض. سأله امامهم: كم منحة أعطينا إلى اليوم. أجابه: عشرة آلاف طالب. فقال الحريري: «وعندي سبعة في البيت، صاروا عشرة آلاف وسبعة أبناء. هؤلاء أبنائي. فهمتم؟ هذا نقاش ينتهي هنا».
[
ألم يكن مشروع التعليم مرتبطاً بشكل أو بآخر بالطموح السياسي للحريري؟
«إذا كانت ترجمة الطموح بهذه الطريقة، فهي ممتازة. على الاقل تبعد الشباب عن المليشيات وتنورهم»، يقول شلق.
بالطبع كان الحريري طامحاً في السياسة. أهم ما في هذا الطموح كان اتفاق الطائف الذي شارك في صنعه رفيق الحريري. وصوله إلى رئاسة الحكومة كان نتيجة لهذا الطموح أيضاً. لكن الرجل لم ير نفسه سياسياً بالمعنى الضيق للكلمة. كان الحريري يعتبر نفسه رجلا وطنياً. هكذا ترتفع رؤياه إلى مستويات أعلى: إنهاء الحرب الاهلية. اعمار لبنان وبناء اقتصاده. رجل هوايته الوحيدة كانت اعمار لبنان. في مرة قال الرئيس الراحل الياس الهراوي للرئيس حافظ الاسد بلهجته الزحلاوية: ماذا افعل به. إذا غاب لدقيقتين يعود حاملا معه عشرة مشاريع جديدة.
[
هذه السطور نتف من علاقة استمرت خمسة وعشرين عاماً. هي لا تفي هذا العمر الطويل حقه بالطبع. كذلك القول المختصر عن رفيق الحريري. لا يمكن اختصاره، يقول الفضل شلق. غير أنه يضيف: عنيد. شديد اللياقة. يفهم معنى التقدم. رجل تسوية.
كل الذين عملوا معه أحبوه. في المقابل، كثير من رجال السياسة كرهوه وهو لم يحبهم في المقابل. بعض هؤلاء صاروا اليوم من نجوم 14 آذار، لم يكن يستقبلهم في بيته.
[
ـ كيف تلقيت خبر اغتياله؟
ـ حتى الآن، لا أصدق...
يجيب. وبعصبية يهز رأسه يميناً ويساراً، كمن يحاول طرد صورة من ذهنه، ويعجز.