منتديات ليب مون

قرار بردم المبنى وأسباب مادية تمنع نقلها إلى مكان آخر
»مكتبة رأس بيروت« ودّعت روادها.. وخبأت قصتها في ثقافتنا


»مكتبة رأس بيروت« تودع روادها



تدخل سيدة في الأربعين من عمرها إلى المكان. يستقطبها كتاب معيّن. تقترب من الرف الذي انتشرت عليه مجموعة من الكتب. تحاول رفع الكتاب المختار، فتفشل. فرفعه يتطلب منها انتزاعه بقوة. وكأن هذا الكتاب لا يريد مغادرة الرف الذي حمل عبأه على مدى نصف قرن. الكتاب هو عينة من آلاف الكتب التي امتدت على مساحة ٢٠٠ متر، في »مكتبة رأس بيروت«. اليوم، يطلق سراحها غصباً عنها، بعد اتخاذ قرار بهدم المبنى القديم الذي تقع فيه المكتبة، على الرصيف المقابل لبوابة مهاجع الجامعة الأميركية على شارع بلس.
أيام وتبدأ الجرافات بهدم حقبة تراثية في منطقة رأس بيروت، فتزيل إرثاً ثقافياً زرعته موسوعات من الكتب في أذهان كل من ارتاد تلك المكتبة التي تأسست في العام ١٩٤٩ على يد أستاذ الأدب العربي في الجامعة الأميركية د.غطاس كرم. في العام ،١٩٥١ انتقلت إلى شارع بلس وتسلم إدارتها عبده بركات. ثم انتقلت الملكية إلى الأستاذ المربي شفيق جحا، الذي سلّمها إلى ابنته فاديا جحا.
عند الرابعة من بعد ظهر أمس، توافد رواد المكتبة إلى مقرها، ليس بدافع شراء الكتب، بل لتوديعها نهائياً. تتولى ربة المكتبة فاديا مهمة استقبال الزوار الذين لبوا دعوتها لحضور اللقاء الوداعي. فجأة، تتحول الرفوف التي غصت بموسوعات الكتب القديمة والجديدة، إلى مجرد أخشاب معلقة على جدران.
»ما بدي أعمل مناحة«، تقول فاديا وهي تسدل الستارة على مكان عاشت فيه منذ العام .١٩٧٣ تحاول المستحيل لخنق دمعة تغصّ في عينيها، وتستبدلها بابتسامة تفاؤل »لأن المكتبة كانت محطة سعادة وتفاؤل لكل من أحبها وزارها«. تؤكد على حق أصحاب الملك بقرار هدم المبنى، وتؤكد على عدم وجود نية بنقل المكتبة إلى مكان آخر لأسباب مادية في الدرجة الأولى. تتحدث كيفية تحوّل المكان في »عهدها« إلى تجمع للمثقفين، وأهمهم طلاب الجامعة وأساتذتها، نتيجة القرب الجغرافي. وتروي عن مكتبة شهدت انطلاقة مجلة »شعر« ومجلة »مواقف«، كما حضنت نقاشات فكرية لشعراء وأدباء ورجال فكر تركوا بصماتهم فينا، ومنهم: مارون عبود، يوسف سلامة، سعيد عقل، ميشال طراد، خليل حاوي، قسطنطين زريق، نقولا زيادة، توفيق صايغ، جبرا ابراهيم جبرا، رياض الريس، احسان عباس، يوسف الخال، ادونيس، شوقي أبو شقرا، أنسي الحاج، فؤاد رفقة، محمد الماغوط، ميشال جحا، شكيب خوري، سمير قصير، نجوى بركات، حنان الشيخ، وسواهم.
لم تتخيل يوماً أنها ستهجر المكان، خصوصا أنها لم تقفل أبوابها في عز أزمة الحرب الأهلية في لبنان: »بقيت في تلك الفترة وحيدة مع هرة في الشارع وتحت أزيز الرصاص«. تضيف جحا أنها حافظت على تراث المكتبة من خلال حفاظها على روحيتها من جيل إلى آخر. وعن أنواع الكتب المتوفرة فيها، تجيب جحا: »تؤمن المكتبة نسبة ٩٠٪ من الكتب العربية. عشت طوال هذه الفترة بتحدٍّ مع نفسي، فكنت أنبش الكتب من تحت الأرض لتلبية حاجات القراء«. وما هو مصير تلك الكتب التي جمعت في صناديق كرتونية؟ تقول جحا أنها أعادت معظمها إلى دور النشر، بينما أبقت القسم الثاني منها في مكتبة صديقة كي تباع فيها.
في ناحية من المكتبة، ينشغل بلال في تصفح بعض الكتب التي تنتظر جمعها في صناديق. يمسك كتاب »مبادئ التربية الوطنية والأخلاقية«، وهو أول كتاب تربوي كتبه صاحب المكتبة شفيق جحا وأدخله إلى المنهج التربوي: »يا ويلي! درست في هذا الكتاب في العام ،١٩٧٣ وسأشتريه كي أطلع عليه من جديد«، يقول بلال. تلفت امرأة بدخولها المفاجئ إلى المكان أنظار الحضور. تسأل عن خلفية قرار إقفال المكتبة. تبدو على ملامحها الصدمة، بعد تلقيها الخبر المؤكد: »كل شي في رأس بيروت صار جديد وما ظل ولا شي تراثي فيه«.
في الجهة الثانية من المكتبة، وضعت مجموعة من الكتب وتم ربطها بشرائط حمراء على طاولة كبيرة. على الزائر اختيار واحدة منها كذكرى مقدمة من أصحاب المكتبة. وحدها صور الفاعليات الثقافية من أدباء وشعراء تركت على الحيطان، لتخبر الحاضر عن تاريخ المكان. تشير جحا إلى أنهم أمهلوها حتى الاثنين المقبل لتفريغ الكتب والبضائع نهائياً.
تدخل طالبة في الجامعة لتسأل عن كتاب محدّد. تخبرها جحا عن إقفال المكتبة. فتجيبها الطالبة بأن الأمر لن يمنعها من البحث عن كتاب هنا، حتى تلفظ المكتبة أنفاسها الأخيرة.